في بداية الحياة، بيكون كل شيء بسيط ونقي، الطفل بيتولد وفي جواه إحساس فطري إنه محبوب ومتشاف من اللي حواليه، وواثق في ده، ولكن مع الوقت، بيحصل شيء بيكسر الحتة دي جواه. مبقاش حضوره يلفت الانتباه، ولا حزنه يُقابل بالحنية، مبقاش يتلقى رغباته. في اللحظة اللي بيحس فيها الطفل إن هو مش متشاف، وإن حقيقته مش بتتحمل، وقتها بيبدأ يصنع آلية نفسية معقدة عشان يقدر يكمل. ساعتها بيحصل تفكيك لذاته الحقيقية وبناء نسخة جديدة ترضي الكبار. وقتها بيقول لنفسه: بما إن حقيقتي مش محبوبة، فأنا هصنع لنفسي صورة أتحب بيها. الطفل هنا بيراقب استجابات البيئة اللي حواليه، بيراقب كل ردة فعل، يتحسس أي علامة رفض، وكل مرة بيعيد تشكيل نفسه حسب اللي يرضيهم. بيفكر: هل أنا كده عاجبهم؟ هل أنا كده متشاف؟ هل ده هيخليهم يحبوني؟
والموجع في كل ده، إن الطفل بعقله البريء الجميل بيصدق إنه هو المسؤول عن أي حاجة بتحصل حواليه، لدرجة إنهم ممكن يلوموا نفسهم على الأمور السلبية اللي بيعملوها الكبار. وهنا ييجي تأثير البيئة والنشأة الغير سوية. بعض الأهل يعاملوا أطفالهم بطريقة قاسية بحجة إنهم يطلعوا متحملين المسؤولية، ولكن للأسف بيخرجوا جيل هش من الداخل. فيه أطفال بيتربوا على النقد المستمر أو الإهمال العاطفي. اللي يسمع طول الوقت: “غلط! مش كده! مينفعش!”، أو اللي بيتنسي وسط الزحمة، أو اللي مش لاقي حضن يطمنه. الطفل ده بيجبر إنه يبني صورة مثالية لنفسه، بس مش لأنه شايف نفسه عظيم، لأ، لأنه حاسس إنه قليل، وبيحاول يثبت العكس بأي طريقة.
و في الطرف التاني تمامًا، فيه أطفال بيتعرضوا لتدليل زايد عن الحد. كل تصرف بسيط منهم بيتقابل بتصفيق وانبهار. اللي كل رغبة ليهم بتتلبى قبل ما حتى يطلبوها، واللي بيتقالهم طول الوقت إنهم “الأذكى، والأجمل، والأفضل”، حتى لو معملوش حاجة تستحق ده. الطفل وقتها بيبتدي يحس إنه مميز بشكل غير واقعي، وده مش بس بيخلق عنده شعور وهمي بالعظمة، ده كمان بيخليه ميتعلمش حدود واقعية للعالم، ميتعلمش الصبر، ولا الإحباط، ولا إن مش كل حاجة يمشي فيها كلامه. وساعات الطفل المدلل ده، لما يكبر، يكتشف إن الحياة برّه مش بنفس الطريقة. الناس مش هتصفق له كل مرة، فبيتصدم، وبيبقى مش فاهم ليه مش محبوب زي ما اتعود.
و في الحالتين، سواء بالإهمال أو التدليل الزائد، الطفل مبيعرفش يحب نفسه حب حقيقي، مش نابع من جواه، مش من شعور حقيقي بالاستحقاق. بيحبها لما يشوف انعكاس حلو ليها في عيون الناس، بس لو الناس سكتت، أو النقد ظهر، بيفقد إحساسه بقيمته.
هيحصل إيه للطفل ده لما يكبر؟
تعامل الأهل وإحنا أطفال، هي دي الأدوات اللي هتخلينا نتعامل بيها وإحنا بالغين وباقي عمرنا. لو فيه إساءات كتيرة من الأهل، النشأة مش هتكون سوية، وهيتوقف النمو النفسي للطفل. هيحس دايمًا إن فيه حاجة ناقصاه، وهيدور على النقص ده في بيئة تانية. العقدة اللي بتكون في الطفل دي بتبان لما الواحد يكبر ويتصرف بسلوكيات غير ناضجة، وده بسبب وليد التربية، وبيخلي فيه عدم نضج في ردود أفعاله وطريقة تفكيره ومشاعره. واللي عنده العقدة دي مبيعرفش ياخد قرار، لا كبير ولا صغير، ولا يخلق علاقات صحية. الطفل بيطلع خايف من المواجهة، والتبرير للآخرين على طول، شخص مبيكونش قادر يدافع عن نفسه، ولا يطالب بحقوقه، ولا بيعرف يرسم حدود واضحة مع الناس. بيكون مستعبد في العلاقات، دايمًا حاسس بشعور اللا قيمة، وبيكون سجين لرغبات الناس.
عُقد الطفولة ممكن تظهر في أكتر من شكل، وكل شكل منهم بيحكي حكاية نقص أو وجع. أولاً: “التعلق المرضي”، وهو شكل من أشكال العلاقات العاطفية، بيحصل فيه إن الشخص يتشبث بالطرف التاني بشكل زائد. بيخاف الفقد بشكل مبالغ فيه، وبيشعر بالفراغ لو الشخص ده بعد أو اختفى لحظة. الطفل اللي اتساب لوحده يبكي ومحدش حضنه، أو اللي كان بيحس إنه لازم يعمل حاجات عشان يتحب، أو اللي كان بيعيش دايمًا في خوف من الفقد، أو في بيت مليان توتر، كل ده بيعلّمه وهو صغير إن الحب = أمان، فبيكبر وهو بيدوّر على الحب وكأنه منقذ، مش شريك. ثانيًا: “قلة الثقة بالنفس وبالآخرين”، ودي مش مجرد شعور لحظي، ده بيكون ناتج من تراكم جراح قديمة. الطفل اللي اتعرض للإهمال أو النقد المستمر أكتر من التشجيع، لو كل خطوة كنت بتاخدها بتتقابل بـ: “مش كده، خلي بالك، إنت مش قدها”. بيتعلم إنه مش كفاية، وإن العالم مكان مش آمن. بيكبر ومعاه جدار خوف بيمنعه من الوثوق بنفسه وقدراته، وبالناس اللي حواليه. تشك في كلام الناس الطيب، وتصدق كل انتقاد، حتى لو كان جارح. تلاقي نفسك مش بس مش واثق فيهم، انت كمان مش واثق في نفسك. وده بيظهر لما تلاقي عندك خوف من خوض تجارب جديدة، تردد في اتخاذ قرارات بسيطة، تقليل من نفسك حتى في الحاجات اللي بتنجح فيها، شك في نوايا الناس حتى لو كويسين، وصعوبة في قبول الحب أو الإطراء. ثالثًا: “الخوف من الهجر”، اللي مش بس معناه إنك تخاف تتساب، هو إنك تعيش في ترقّب دايم إن أي حب هيخلص، وإن كل حد هيختفي في لحظة. هو الإحساس اللي يخلي قلبك يوجعك لو رسالة مجتش، أو لو الرد اتأخر، أو لو نبرة صوت اتحولت فجأة. لو كنت طفل وحسيت إنك اتنسيت، أو اتهملت، أو اتحبيت بشرط، لو كان في حد وعدك يبقى جنبك واختفى، أو كنت مستني وعد متحققش، يبقى طبيعي تكبر وقلبك متعلمش يحس بالأمان. الطفل اللي متطمنش، بيعيش عمره كله بيحاول يتأكد إن “اللي بيحبه مش هيسيبه”. رابعًا: “صعوبة التعبير عن المشاعر”، هنا تحس جواك حاجة، بس متعرفش تقولها. تبقى متضايق ومش عارف تعبر، تفرح، بس مفيش كلام يشرح ده. تبكي، بس في سرك، وتضحك قدام الناس وكأنك بخير. تعبر عن غضبك بالانسحاب أو البرود، بتحس إن محدش فاهمك حتى لو حاولت تشرح. كبرت وإنت فاكر إن المشاعر “عيب”، وإن الكلام عنها “ضعف”. كبرت وإنت مش عارف توصل اللي جواك. فتبعد بدل ما تطلب، وتسكت بدل ما تصرخ. ده لأنك كبرت وإنت متعلمتش تحكي، مكنش مسموح ليك تحس بصوت عالي. خامسًا: “القلق المستمر أو تأنيب النفس بدون داعي”، و دا بيكون لما بتنام وإنت بتحلل كل كلمة قولتها في اليوم. بتفكر: هل زعلت حد؟ هل غلطت؟ بتجلد نفسك بصمت، وقلبك دايمًا في حالة استنفار، حتى لو مفيش حاجة تستدعي القلق. وجذوره بتكون لما اتقالك كتير: “غلطتك!”، حتى لو مش غلطك. اتحملت مسؤوليات أكبر من سنك، خوفت من العقاب، أو من الغضب، أو من الرفض، كنت بتحاول تكون كامل علشان تتجنب العقوبة. ده بيخليك تكبر وإنت شايل على كتفك صوت بيقول: “إنت السبب”. سادسًا: “عدم وضع حدود للآخرين”، دا بيكون لما ناس تقتحمك بسهولة، تدخل في كلامك، في قراراتك، في مشاعرك، وإنت تسكت، وتعدي، وتحاول تبرر. مش لأنك مش حاسس، لكن لأنك مش عارف تحط حدود. أو يمكن، اتعلمت إن اللي بيحط حدود “أناني”. وده بيكون جذوره من الطفولة، لما رأيك مكنش له وزن، أو لما كان لازم “تسمع الكلام” مهما كان. لما اتحبيت بس لو كنت “مطيع”. ده بيزرع جوا الطفل إحساس إن رأيه مش مهم، وإن “الناس أولى” من نفسه. وده بيظهر لما تلاقي صعوبة في قول “لأ”، وخجل من الدفاع عن نفسك.
علميًا، الصدمات اللي بتحصل في سن صغير مش بس بتأثر على مشاعر الطفل، لكن كمان بتغير تركيب المخ، خصوصًا في أماكن معينة زي “اللوزة الدماغية” Amygdala مثلًا، اللي ليها دور كبير في التحكم في المشاعر. وكمان “القشرة الجبهية” Prefrontal Cortex، اللي مسؤولة عن التفكير، والتخطيط، واتخاذ القرارات. بتكون أقل نشاطًا بسبب التوتر المستمر، وبيخلّي الجهاز العصبي يتبرمج على إنه يبالغ في ردود فعله، وده بيأثر على طريقة استجابتنا للمواقف بعد كده. لكن الحلو؟ إن الدماغ بتتغير، واللي اتشكل زمان، ممكن يُعاد تشكيله بالوعي، والرحمة، والاحتواء.
و عشان كدا، الخلاص مش في الهروب من الطفل اللي جوانا. الخلاص في إننا نرجعله، ونسمعه. كلنا جايين من حكايات قديمة، حاجات متحكتش، ودموع مكتومة، ونظرات إستغاثة متفهمتش. الطفل اللي كنا عليه لسه جوانا، بيتنفس جوا لحظة خوف، أو صمت تقيل، أو لهفة مش مفهومة. طفولتنا مبتختفيش، هي بتستخبى في الطريقة اللي بنحب بيها، وبنتوجع بيها، وبنحاول نثبت بيها إننا كفاية.
بس عارف إيه الحلو في الحكاية؟
إنك تقدر “تشوف”، ولما تشوف، تقدر “تغير”. مش لازم تفضل طول عمرك أسير للماضي،
لكن لازم تعترف إنه جزء منك، وتبدأ تحبه، وتعيد له ثقته في نفسه وفيك. ابدأ من هنا، من أول لحظة تقول فيها للطفل اللي جواك:
“أنا سامعك، ومش هسيبك لوحدك تاني”.
“لو حسيت إن فيه حاجة من كلامي لمستك، متتجاهلش ده. فيه مساحة تبدأ منها، حتى بخطوة بسيطة: تكتب، تتكلم، أو تطلب مساعدة. لأن الاعتراف هو أول طريق التعافي”.
عندي خوف كبير من مواجهة طفلي الداخلي.
يمكن أقول إن طفولتي كانت أسوأ فترة في حياتي، ومع ذلك نظرتي لطفلتي الصغيرة مو متصالحة.
أحيانًا أتخيل نفسي أحتضنها وأواسيها وأقول لها كلام يطمنها، لكن في جزء عميق بداخلي يلومها على ضعفها، كأنها كانت المفروض أقوى، رغم إني واعي تمامًا إنها مجرد طفلة، ما كانت تقدر تحمي نفسها.
كل ما حاولت أشتغل على نفسي، وأتطور، وأفهم أخطائي، أرجع لنفس النقطة، ما أقدر أواجهها. ما عندي الجرأة، ولا حتى الاستعداد، إني ألمحها… حتى لو كان مجرد صدفة.
شكرًا على طرحك للموضوع 🫶🏻
دائمًا أحس أن بعض الصفات اللي فيني اليوم لها جذور في الطفولة، خصوصًا بسبب صدمات أو مواقف تركت أثرها
مثلًا، لما أقرر أتعلم مهارة جديدة، أحيانًا أحتار هل أنا فعلًا أحبها؟ أو أني بس أبحث عن اهتمام الناس؟
في داخلي إحساس كأنني أريد أن أُلاحظط
أتذكر أني زمان كنت أبحث عن اهتمام الآخرين بأي طريقة، بس بدون ما أزعجهم. مثلًا، كنت أعطيهم أشياء فقط عشان يحسوا بوجودي
لكن المشكلة إني ما أعرف بالضبط كيف أفسر هذا الشعور، أو حتى كيف أتعامل مع الصفات اللي ظهرت بعده
و فيه ضفات أخرى ما أعرف كيف اشرحها
و فوق هذا ما اعرف كيف أحل هااصدمات و التصرفات (╥﹏╥)